Admin Admin
عدد المساهمات : 371 تاريخ التسجيل : 23/06/2009
| موضوع: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (1-3) السبت نوفمبر 27, 2010 4:36 pm | |
| |
الحديث الرابع هو ما أخرجه مسلم في " صحيحه ": حدّثنا إسحاق بن إبراهيم ومحمد بن رافع واللفظ لابن رافع.
قال إساحق: أخبرنا وقال ابن رافع: حدّثنا عبد الرزّاق، أخبرنا معمر، عن ابن طاوس عن أبيه، عن ابن عباس، قال: كان الطلاق على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا روح بن عبادة، أخبرنا ابن جريج، وحدثنا ابن رافع واللفظ له، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج، أخبرني ابن طاوس عن أبيه، أن أبا الصهباء قال لابن عباس: أتعلم إنما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وثلاثًا من إمارة عمر ؟ فقال ابن عباس: نعم.
وحدّثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد، عن أيوب السختياني، عن إبراهيم بن ميسرة، عن طاوس، أن أبا الصهباء قال لابن عباس: هات من هناتك، ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبي بكر واحدة ؟ فقال: قد كان ذلك، فلما كان في عهد عمر تتايع الناس في الطلاق فأجازه عليهم، هذا لفظ مسلم في " صحيحه ".
وهذه الطريق الأخيرة أخرجها أبو داود ولكن لم يسمّ إبراهيم بن ميسرة.
وقال بدله عن غيره واحد، ولفظ المتن أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرًا من إمارة عمر ؟.
قال ابن عباس: بلى، كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرًا من إمارة عمر، فلما رأى الناس يعني عمر، قد تتايعوا فيها، قال: أجيزوهن عليهم، وللجمهور عن حديث ابن عباس هذا عدة أجوبة:
الأول: أن الثلاث المذكورة فيه التي كانت تجعل واحدة، ليس في شىء من روايات الحديث التصريح بأنها واقعة بلفظ واحد، ولفظ طلاق الثلاث لا يلزم منه لغة ولا عقلاً ولا شرعًا أن تكون بلفظ واحد، فمن قال لزوجته: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، ثلاث مرات، في وقت واحد، فطلاقه هذا طلاق الثلاث؛ لأنه صرح بالطلاق فيه ثلاث مرات، وإذا قيل لمن جزم بأن المراد في الحديث إيقاع الثلاث بكلمة واحدة، من أين أخذت كونها بكلمة واحدة ؟
فهل في لفظ من ألفاظ الحديث أنها بكلمة واحدة ؟ وهل يمنع إطلاق الطلاق الثلاث على الطلاق بكلمات متعددة ؟ فإن قال: لا، يقال له طلاق الثلاث إلا إذا كان بكلمة واحدة، فلا شك في أن دعواه هذه غير صحيحة، وإن اعترف بالحق وقال: يجوز إطلاقه على ما أوقع بكلمة واحدة، وعلى ما أوقع بكلمات متعددة، وهو أسّد بظاهر اللفظ، قيل له: وإذن فجزمك بكونه بكلمة واحدة لا وجه له، وإذا لم يتعين في الحديث كون الثلاث بلفظ واحد سقط الاستدلال به من أصله في محل النزاع. ومما يدلّ على أنه لا يلزم من لفظ طلاق الثلاث في هذا الحديث كونها بكلمة واحدة، أن الإمام أبا عبد الرحمان النسائي مع جلالته وعلمه وشدة فهمه، ما فهم من هذا الحديث إلا أن المراد بطلاق الثلاث فيه، أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، بتفريق الطلقات؛ لأن لفظ الثلاث أظهر في إيقاع الطلاق ثلاث مرات. ولذا ترجم في " سننه "، لرواية أبي داود المذكورة في هذا الحديث. فقال: " باب طلاق الثلاث المتفرقة قبل الدخول بالزوجة " ثم قال: أخبرنا أبو داود سليمان بن سيف قال: حدّثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه: أن أبا الصهباء جاء إلى ابن عباس رضي اللَّه عنهما فقال: يا ابن عباس، ألم تعلم أن الثلاث كانت على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرًا من خلافة عمر ترد إلى الواحدة ؟ قال: نعم، فترى هذا الإمام الجليل صرح بأن طلاق الثلاث في هذا الحديث ليس بلفظ واحد بل بإلفاظ متفرقة، ويدل على صحة ما فهمه النسائي رحمه اللَّه من الحديث ما ذكره ابن القيم في " زاد المعاد "، في الردّ على من استدل لوقوع الثلاث دفعة، بحديث عائشة: أن رجلاً طلق امرأته ثلاثًا فتزوجت. الحديث. فإنه قال فيه ما نصّه: ولكن أين في الحديث أنه طلق الثلاث بفم واحد ؟ بل الحديث حجّة لنا فإنه لا يقال فعل ذلك ثلاثًا وقال ثلاثًا، إلا من فعل وقال مرة بعد مرة، وهذا هو المعقول في لغات الأمم عربهم وعجمهم. كما يقال قذفه ثلاثًا وشتمه ثلاثًا وسلم عليه ثلاثًا. اهـ منه بلفظه.
وهو دليل واضح لصحة ما فهمه أبو عبد الرحمان النسائي رحمه اللَّه، من الحديث؛ لأن لفظ الثلاث في جميع رواياته أظهر في أنها طلقات ثلاث واقعة مرة بعد مرة، كما أوضحه ابن القيم في حديث عائشة المذكور آنفًا.
وممن قال: بأن المراد بالثلاث في حديث طاوس المذكور، الثلاث المفرقة بألفاظ نحو أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، ابن سريج فإنه قال: يشبه أن يكون ورد في تكرير اللفظ، كأن يقول أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق. وكانوا أولاً على سلامة صدورهم، يقبل منهم أنهم أرادوا التأكيد، فلما كثر الناس في زمن عمر وكثر فيهم الخداع ونحوه؛ مما يمنع قبول من ادعى التأكيد، حمل عمر اللفظ على ظاهر التكرار، فأمضاه عليهم. قاله ابن حجر في " الفتح "، وقال: إن هذا الجواب ارتضاه القرطبي، وقواه بقول عمر: إن الناس استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة.
وقال النووي في " شرح مسلم "، ما نصّه: وأما حديث ابن عباس فاختلف الناس في جوابه وتأويله، فالأصح أن معناه أنه كان في أول الأمر إذا قال لها: أنت طالق، أن طالق، أنت طالق، ولم ينوِ تأكيدًا، ولا استئنافًا، يحكم بوقوع طلقة؛ لقلة إرادتهم الاستئناف بذلك، فحمل على الغالب الذي هو إرادة التأكيد. فلما كان في زمن عمر رضي اللَّه عنه وكثر استعمال الناس لهذه الصيغة، وغلب منهم إرادة الاستئناف بها، حملت عند الإطلاق على الثلاث؛ عملاً بالغالب السابق إلى الفهم في ذلك العصر.
قال مقيده عفا اللَّه عنه: وهذا الوجه لا إشكال فيه؛ لجواز تغير الحال عند تغير القصد؛ لأن " الأعمال بالنيات،
"ولكل امرىء ما نوى"، وظاهر اللفظ يدل لهذا كما قدمنا.
وعلى كل حال، فادعاء الجزم بأن معنى حديث طاوس المذكور أن الثلاث بلفظ واحد ادعاء خال من دليل كما رأيت، فليتّق اللَّه من تجرأ على عزو ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، مع أنه ليس في شىء من روايات حديث طاوس كون الثلاث المذكورة بلفظ واحد، ولم يتعين ذلك من اللغة، ولا من الشرع، ولا من العقل كما ترى.
قال مقيده عفا اللَّه عنه: ويدلّ لكون الثلاث المذكورة ليست بلفظ واحد ما تقدم في حديث ابن إسحاق عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن أحمد، وأبي يعلى، من قوله: طلّق امرأته ثلاثًا في مجلس واحد وقوله صلى الله عليه وسلم: "كيف طلقتها" ؟ قال: ثلاثًا في مجلس واحد؛ لأن التعبير بلفظ المجلس يفهم منه أنها ليست بلفظ واحد، إذ لو كان اللفظ واحدًا لقال بلفظ واحد ولم يحتج إلى ذكر المجلس، إذ لا داعي لذكر الوصف الأعم وترك الأخص بلا موجب، كما هو ظاهر الجواب الثاني، عن حديث ابن عباس هو: أن معنى الحديث أن الطلاق الواقع في زمن عمر ثلاثًا كان يقع قبل ذلك واحدة؛ لأنهم كانوا لا يستعملون الثلاث أصلاً، أو يستعملونها نادرًا. وأما في عهد عمر فكثر استعمالهم لها.
ومعنى قوله: فأمضاه عليهم، على هذا القول، أنه صنع فيه من الحكم بإيقاع الطلاق ما كان يصنع قبله، ورجّح هذا التأويل ابن العربي ونسبه إلى أبي زرعة الرازي. وكذا أورده البيهقي بإسناده الصحيح إلى أبي زرعة أنه قال: معنى هذا الحديث عندي إنما تُطَلِّقون أنتم ثلاثًا، كانوا يُطَلِّقُون واحدة. قال النووي: وعلى هذا فيكون الخبر وقع عن اختلاف عادة الناس خاصة، لا عن تغيير الحكم في المسألة الواحدة، وهذا الجواب نقله القرطبي في تفسير قوله تعالى: {الطَّلَـاقُ مَرَّتَانِ}، عن المحقق القاضي أبي الوليد الباجي، والقاضي عبد الوهاب، والكيا الطبري.
قال مقيّده عفا اللَّه عنه: ولا يخفى ما في هذا الجواب من التعسف، وإن قال به بعض أجلاء العلماء.
الجواب الثالث: عن حديث ابن عباس رضي اللَّه عنهما، هو القول بأنه منسوخ، وأن بعض الصحابة لم يطلع على النسخ إلا في عهد عمر، فقد نقل البيهقي في " السنن الكبرى "، في باب من جعل الثلاث واحدة عن الإمام الشافعي ما نصّه: قال الشافعي: فإن كان معنى قول ابن عباس أن الثلاث كانت تحسب على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم واحدة، يعني أنه بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فالذي يشبه واللَّه أعلم أن يكون ابن عباس علم أن كان شيئًا فنسخ، فإن قيل: فما دل على ما وصفت ؟ قيل: لا يشبه أن يكون ابن عباس يروي عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شيئًا ثم يخالفه بشىء لم يعلمه كان من النبيّ صلى الله عليه وسلم فيه خلاف. قال الشيخ: ورواية عكرمة عن ابن عباس، قد مضت في النسخ وفيها تأكيد لصحة هذا التأويل. قال الشافعي: فإن قيل: فلعل هذا شىء روي عن عمر، فقال فيه ابن عباس بقول عمر رضي اللَّه عنه، قيل: قد علمنا أن ابن عباس رضي اللَّه عنهما يخالف عمر رضي اللَّه عنه في نكاح المتعة، وفي بيع الدينار بالدينارين، وفي بيع أُمهات الأولاد وغيره، فكيف يوافقه في شىء يروى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فيه خلافه ؟ اهـ محل الحاجة من البيهقي بلفظه.
وقال الحافظ ابن حجر في " فتح الباري "، ما نصه: الجواب الثالث دعوى النسخ، فنقل البيهقي عن الشافعي أنه قال: يشبه أن يكون ابن عباس علم شيئًا نسخ ذلك، قال البيهقي: ويقويه ما أخرجه أبو داود من طريق يزيد النحوي،
عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان الرجل إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها، وإن طلقها ثلاثًا، فنسخ ذلك. والترجمة التي ذكر تحتها أبو داود الحديث المذكور هي قوله: " باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث ".
وقال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {الطَّلَـاقُ مَرَّتَانِ} الآية، بعد أن ساق حديث أبي داود المذكور آنفًا ما نصّه: ورواه النسائي عن زكريا بن يحيى عن إسحاق بن إبراهيم، عن علي بن الحسين به، وقال ابن أبي حاتم: حدّثنا هارون بن إسحاق، حدثنا عبدة يعني: ابن سليمان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، أن رجلاً قال لامرأته لا أطلقك أبدًا، ولا آويك أبدًا، قالت: وكيف ذلك ؟ قال: أطلق حتى إذا دنا أجلك راجعتك، فأتت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وذكرت له ذلك، فأنزل اللَّه عزّ وجلّ: {الطَّلَـاقُ مَرَّتَانِ}، قال: فاستقبل الناس الطلاق من كان طلق ومن لم يكن طلق، وقد رواه أبو بكر بن مردويه من طريق محمد بن سليمان، عن يعلى بن شبيب، مولى الزبير، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة: فذكره بنحو ما تقدم، ورواه الترمذي عن قتيبة عن يعلى بن شبيب به، ثم رواه عن أبي كريب، عن ابن إدريس، عن هشام، عن أبيه مرسلاً وقال: هذا أصح. ورواه
الحاكم في " مستدركه "، من طريق يعقوب بن حميد بن كليب، عن يعلى بن شبيب به، وقال: صحيح الإسناد.
ثم قال ابن مردويه: حدّثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا إسماعيل بن عبد اللَّه، حدّثنا محمد بن حميد، حدّثنا سلمة بن الفضل، عن محمَّد بن إسحاق، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: لم يكن للطلاق وقت، يطلق الرجل امرأته ثم يراجعها، ما لم تنقض العدة، وكان بين رجل من الأنصار وبين أهله بعض ما يكون بين الناس، فقال: واللَّه لأتركنك لا أيمًا، ولا ذات زوج، فجعل يطلقها حتى إذا كادت العدة أن تنقضي راجعها، ففعل ذلك مرارًا، فأنزل اللَّه عزّ وجلّ: {الطَّلَـاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَـانٍ}، فوقت الطلاق ثلاثًا لا رجعة فيه بعد الثالثة، حتى تنكح زوجًا غيره. وهكذا روي عن قتادة مرسلاً، ذكره السدي وابن زيد، وابن جرير كذلك. واختار أن هذا تفسير هذه الآية.ا هـ من ابن كثير بلفظه.
وفي هذه الروايات دلالة واضحة لنسخ المراجعة بعد الثلاث، وإنكار المازري ــ رحمه اللَّه ــ ادعاء النسخ مردود بما رده به الحافظ ابن حجر في " فتح الباري "؛ فإنه لما نقل عن المازري إنكاره للنسخ من أوجه متعددة، قال بعده ما نصّه: قلت: نقل النووي هذا الفصل في " شرح مسلم " وأقره، وهو متعقب في مواضع: أحدها: أن الذي ادعى نسخ الحكم لم يقل: إن عمر هو الذي نسخ حتى يلزم منه ما ذكر، وإنما قال ما تقدم: يشبه أن يكون علم شيئًا من ذلك نسخ، أي اطلع على ناسخ للحكم الذي رواه مرفوعًا. ولذلك أفتى بخلافه، وقد سلم المازري في أثناء كلامه أن إجماعهم يدل على ناسخ، وهذا هو مراد من ادعى النسخ.
الثاني: إنكاره الخروج عن الظاهر عجيب؛ فإن الذي يحاول الجمع بالتأويل يرتكب خلاف الظاهر حتمًا.
الثالث: أن تغليطه من قال المراد ظهور النسخ عجيب أيضًا؛ لأن المراد بظهوره انتشاره، وكلام ابن عباس أنه كان يفعل في زمن أبي بكر، محمول على أن الذي كان يفعله من لم يبلغه النسخ، فلا يلزم ما ذكر من إجماعهم على الخطأ. اهـ محل الحاجة من " فتح الباري " بلفظه، ولا إشكال فيه؛ لأن كثيرًا من الصحابة اطلع على كثير من الأحكام لم يكن يعلمه، وقد وقع ذلك في خلافة أبي بكر، وعمر، وعثمان، فأبو بكر لم يكن عالمًا بقضاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم،
في ميراث الجدة حتى أخبره المغيرة بن شعبة، ومحمد بن مسلمة، وعمر لم يكن عنده علم بقضاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في دية الجنين حتى أخبره المذكوران قبل، ولم يكن عنده علم من أخذ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الجزية من مجوس هجر حتى أخبره عبد الرحمان بن عوف. ولا من الاستئذان ثلاثًا، حتى أخبره أبو موسى الأشعري، وأبو سعيد الخدري، وعثمان لم يكن عنده علم بأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أوجب السكنى للمتوفى عنها زمن العدة، حتى أخبرته فريعة بنت مالك.
والعباس بن عبد المطلب، وفاطمة الزهراء رضي اللَّه عنهما، لم يكن عندهما علم بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: " إنا معاشر الأنبياء لا نورث " الحديث، حتى طلبا ميراثهما من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأمثال هذا كثيرة جدًا، وأوضح دليل يزيل الإشكال عن القول بالنسخ المذكور وقوع مثله، واعتراف المخالف به في نكاح المتعة، فإن مسلمًا روى عن جابر رضي اللَّه عنه: " أن متعة النساء كانت تفعل في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وصدرًا من خلافة عمر، قال: ثم نهانا عمر عنها فانتهينا وهذا مثل ما وقع في طلاق الثلاث طبقًا " ما أشبه الليلة بالبارحة ":
فإلاّ يكنها أو تكنه فإنه أخوها غذته أمه بلبانها
فمن الغريب أن يسلم منصف إمكان النسخ في إحداهما، ويدعي استحالته في الأخرى، مع أن كلاًّ منهما روى مسلم فيها عن صحابي جليل: أن ذلك الأمر كان يفعل في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وصدرًا من خلافة عمر، في مسألة تتعلق بالفروج ثم غيره عمر.
ومن أجاز نسخ نكاح المتعة، وأحال نسخ جعل الثلاث واحدة، يقال له: ما لبائك تجر وبائي لا تجر ؟ فإن قيل: نكاح المتعة صح النصّ بنسخه. قلنا: قد رأيت الروايات المتقدمة بنسخ المراجعة بعد الثلاث. وممن جزم بنسخ جعل الثلاث واحدة، الإمام أبو داود رحمه اللَّه تعالى ورأى أن جعلها واحدة إنما هو في الزمن الذي كان يرتجع فيه بعد ثلاث تطليقات وأكثر، قال في " سننه ": " باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث "، ثم ساق بسنده حديث ابن عباس قال: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ}. وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثًا فنسخ ذلك، وقال: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ} الآية. وأخرج نحوه النسائي وفي إسناده علي بن الحسين بن واقد، قال فيه ابن حجر في "التقريب": صدوق يهم، وروى مالك في "الموطأ"، عن هشام بن عروة عن أبيه، أنه قال: كان الرجل إذا طلق امرأته ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدتها كان ذلك له، وإن طلقها ألف مرة فعمد رجل إلى امرأته فطلقها حتى إذا أشرفت على انقضاء عدتها راجعها، ثم قال: لا آويك ولا أطلقك، فأنزل اللَّه: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}، فاستقبل الناس الطلاق جديدًا من يومئذ، من كان طلق منهم أو لم يطلق.
ويؤيد هذا أن عمر لم ينكر عليه أحد من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، إيقاع الثلاث دفعة مع كثرتهم، وعلمهم، وورعهم، ويؤيده: أن كثيرًا جدًا من الصحابة الأجلاء العلماء صح عنهم القول بذلك، كابن عباس، وعمر، وابن عمر، وخلق لا يحصى. والناسخ الذي نسخ المراجعة بعد الثلاث، قال بعض العلماء: إنه قوله تعالى: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}، كما جاء مبينًا في الروايات المتقدمة، ولا مانع عقلاً ولا عادة من أن يجهل مثل هذا الناسخ كثير من الناس إلى خلافة عمر، مع أنه صلى الله عليه وسلم صرّح بنسخها وتحريمها إلى يوم القيامة، في غزوة الفتح، وفي حجة الوداع أيضًا، كما جاء في رواية عند مسلم.
ومع أن القرءان دلّ على تحريم غير الزوجة والسرية، بقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ}، ومعلوم أن المرأة المتمتع بها ليست بزوجة ولا سرية كما يأتي تحقيقه إن شاء اللَّه تعالى في سورة "النساء"، في الكلام على قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ}. والذين قالوا: بالنسخ، قالوا: في معنى قول عمر: إن الناس استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، أن المراد بالأناة، أنهم كانوا يتأنون في الطلاق فلا يوقعون الثلاث في وقت واحد. ومعنى استعجالهم أنهم صاروا يوقعونها بلفظ واحد، على القول بأن ذلك هو معنى الحديث. وقد قدمنا أنه لا يتعين كونه هو معناه، وإمضاؤه له عليهم إذن هو اللازم، ولا ينافيه قوله فلو أمضيناه عليهم، يعني ألزمناهم بمقتضى ما قالوا، ونظيره: قول جابر عند مسلم في نكاح المتعة: فنهانا عنها عمر. فظاهر كل منهما أنه اجتهاد من عمر، والنسخ ثابت فيهما معًا كما رأيت، وليست الأناة في المنسوخ، وإنما هي في عدم الاستعجال بإيقاع الثلاث دفعة. وعلى القول الأول: إن المراد بالثلاث التي كانت تجعل واحدة، أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق. فالظاهر في إمضائه لها عليهم أنه من حيث تغير قصدهم من التأكيد إلى التأسيس كما تقدم. ولا إشكال في ذلك.
أما كون عمر كان يعلم أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، كان يجعل الثلاث بلفظ واحد واحدة، فتعمد مخالفة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وجعلها ثلاثًا، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، فلا يخفى بعده، والعلم عند اللَّه تعالى.
الجواب الرابع: عن حديث ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما، أن رواية طاوس عن ابن عباس مخالفة لما رواه عنه الحفاظ من أصحابه، فقد روى عنه لزوم الثلاث دفعة سعيد بن جبير، وعطاء بن أبي رباح، ومجاهد، وعكرمة، وعمرو بن دينار، ومالك بن الحارث، ومحمد بن إياس بن البكير، ومعاوية بن أبي عياش الأنصاري، كما نقله البيهقي في "السنن الكبرى"، والقرطبي وغيرهما. وقال البيهقي في "السنن الكبرى": إن البخاري لم يخرج هذا الحديث؛ لمخالفة هؤلاء لرواية طاوس عن ابن عباس.
وقال الأثرم: سألت أبا عبد اللَّه عن حديث ابن عباس: كان الطلاق الثلاث على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر رضي اللَّه عنهما، طلاق الثلاث واحدة، بأي شىء تدفعه ؟ قال برواية الناس عن ابن عباس من وجوه خلافه، وكذلك نقل عنه ابن منصور قاله ابن القيم. قال مقيده عفا اللَّه عنه: فهذا إمام المحدثين وسيد المسلمين في عصره الذي تدارك اللَّه به الإسلام بعد ما كاد تتزلزل قواعده، وتُغير عقائده، أبو عبد اللَّه أحمد بن حنبل رحمه اللَّه تعالى قال للأثرم وابن منصور: إنه رفض حديث ابن عباس قصدًا؛ لأنه يرى عدم الاحتجاج به في لزوم الثلاث بلفظ واحد؛ لرواية الحفاظ عن ابن عباس ما يخالف ذلك، وهذا الإمام محمد بن إسماعيل البخاري، وهو هو، ذكر عنه الحافظ البيهقي أنه ترك هذا الحديث عمدًا؛ لذلك الموجب الذي تركه من أجله الإمام أحمد. ولا شك أنهما ما تركاه إلا لموجب يقتضي ذلك، فإن قيل: رواية طاوس في حكم المرفوع، ورواية الجماعة المذكورين موقوفة على ابن عباس، والمرفوع لا يعارض بالموقوف.
فالجواب أن الصحابي إذا خالف ما روي ففيه للعلماء قولان: وهما روايتان عن أحمد رحمه اللَّه:
الأولى: أنه لا يحتج بالحديث؛ لأن أعلم الناس به راويه وقد ترك العمل به، وهو عدل، عارف، وعلى هذه رواية فلا إشكال.
وعلى الرواية الأخرى التي هي المشهورة عند العلماء أن العبرة بروايته لا بقوله. فإنه لا تقدم روايته إلا إذا كانت صريحة المعنى، أو ظاهرة فيه ظهورًا يضعف معه احتمال مقابله، أما إذا كانت محتملة لغير ذلك المعنى احتمالاً قويًا فإن مخالفة الراوي لما روى تدل على أن ذلك المحتمل الذي ترك ليس هو معنى ما روىا، وقد قدمنا أن لفظ طلاق الثلاث في حديث طاوس المذكور محتمل احتمالاً قويًا لأن تكون الطلقات مفرقة، كما جزم به النسائي وصححه النووي، والقرطبي، وابن سريج فالحاصل أن ترك ابن عباس لجعل الثلاث بفم واحد واحدة يدلّ على أن معنى الحديث الذي روي ليس كونها بلفظ واحد كما سترى بيانه في كلام القرطبي في المفهم في الجواب الذي بعد هذا.
|
| |
|