موضوع: المجلد الأول من تفسير أضواء البيان السبت نوفمبر 27, 2010 4:38 pm
قال إبراهيم وحدّثني سعيد بن جبير عن ابن عباس مثله. ذكره في المحصر.
قال الشوكاني في "نيل الأوطار": والظاهر عدم وجوب الدم؛ لعدم الدليل.
قال مقيده عفا اللَّه عنه: الظاهر: أن الدليل عند من قال بذلك هو الأحاديث الواردة بأنه صلى الله عليه وسلم، لمّا صده المشركون عام الحديبية نحر قبل الحلق وأمر أصحابه بذلك، فمن ذلك ما رواه أحمد والبخاري وأبو داود عن المسور، ومروان في حديث عمرة الحديبية والصلح أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما فرغ من قضية الكتاب قال لأصحابه: "قوموا فانحروا ثم احلقوا".
وللبخاري عن المسور أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نحر قبل أن يحلق، وأمر أصحابه بذلك اهـ. فدلّ فعله وأمره على أن ذلك هو اللازم للمحصر ومن قدّم الحلق على النحر فقد عكس ما أمر به النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومن أخلّ بنسك فعليه دم.
قال مقيده عفا اللَّه عنه: الذي تدلّ عليه نصوص السنة الصحيحة أن النحر مقدّم على الحلق، ولكن من حلق قبل أن ينحر فلا حرج عليه من إثم ولا دم، فمن ذلك ما أخرجه الشيخان في "صحيحيهما"، عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أجاب من سأله، بأنه ظن الحلق قبل النحر فنحر قبل أن يحلق، بأن قال له: "افعل ولا حرج".
ومن ذلك ما أخرجه الشيخان في "صحيحيهما"، أيضًا عن ابن عباس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قيل له في الذبح والحلق والرمي والتقديم والتأخير فقال: "لا حرج".
وفي رواية للبخاري، وأبي داود، والنسائي، وابن ماجه سأله رجل فقال: حلقت قبل أن أذبح، قال: "اذبح ولا حرج"، وقال: رميت بعد ما أمسيت، فقال: "افعل ولا حرج".
وفي رواية للبخاري، قال رجل للنبيّ صلى الله عليه وسلم: زرت قبل أن أرمي، قال: "لا حرج "، قال: حلقت قبل أن أذبح، قال: "لا حرج"، والأحاديث بمثل هذا كثيرة. وهي تدل دلالة لا لبس فيها على أن من حلق قبل أن ينحر لا شىء عليه من إثم ولا فدية؛ لأن قوله: "لا حرج"، نكرة في سياق النفي ركبت مع لا فبنيت على الفتح. والنكرة إذا كانت كذلك فهي نصّ صريح في العموم، فالأحاديث إذن نصّ صريح في عموم النفي لجميع أنواع الحرج من إثم وفدية. واللَّه تعالى أعلم.
ولا يتضح حمل الأحاديث المذكورة على من قدم الحلق جاهلاً، أو ناسيًا، وإن كان سياق حديث عبد اللَّه بن عمرو المتفق عليه يدلّ على أن السائل جاهل؛ لأن بعض تلك الأحاديث الواردة في الصحيح ليس فيها ذكر النسيان ولا الجهل، فيجب استصحاب عمومها حتى يدل دليل على التخصيص بالنسيان والجهل، وقد تقرر أيضًا في علم الأصول أن جواب المسؤول لمن سأله لا يعتبر فيه مفهوم المخالفة؛ لأن تخصيص المنطوط بالذكر لمطابقة الجواب للسؤال، فلم يتعين كونه لإخراج المفهوم عن حكم المنطوق، وقد أشار له في "مراقي السعود"، في مبحث موانع اعتبار مفهوم المخالفة بقوله عاطفًا على ما يمنع اعتباره: أو جهل الحكم أو النطق انجلب للسؤل أو جرى على الذي غلب
كما يأتي بيانه في الكلام على قوله تعالى: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ}. وبه تعلم أن وصف عدم الشعور الوارد في السؤال لا مفهوم له.
وقال الشوكاني في نيل الأوطار: وتعليق سؤال بعضهم بعدم الشعور لا يستلزم سؤال غيره به حتى يقال: إنه يختص الحكم بحالة عدم الشعور، ولا يجوز اطراحها بإلحاق العمد بها.
ولهذا يعلم أن التعويل في التخصيص على وصف عدم الشعور المذكور في سؤال بعض السائلين غير مفيد للمطلوب، انتهى محل الغرض منه بلفظه.
وقد قدّمنا في ترجمة هذا الكتاب أن غلبة إرادة المعنى المعين في القرءان تدلّ على أنه المراد؛ لأن الحمل على الغالب أولى، ولا خلاف بين العلماء في أن المراد بالفضل المذكور في الآية ربح التجارة، كما ذكرنا قوله تعالى
ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُلم يبيّن هنا المكان المأمور بالإفاضة منه المعبر عنه بلفظة {حَيْثُ}، التي هي كلمة تدل على المكان، كما تدل حين على الزمان.
، فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ لم يبيّن هنا هذا المكان المأمور بالإتيان منه المعبر عنه بلفظة حيث ولكنه بين أن المراد به الإتيان في القبل في آيتين.
إحداهما: هي قوله هنا: {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ}؛ لأن قوله: {فَاتُواْ} أمر بالإتيان بمعنى الجماع وقوله: {حَرْثِكُمْ}، يبيّن أن الإتيان المأمور به إنما هو في محل الحرث يعني بذر الولد بالنطفة، وذلك هو القبل دون الدبر كما لا يخفى؛ لأن الدبر ليس محل بذر للأولاد، كما هو ضروري.
ويتّضح لك من هذا أن معنى قوله تعالى: {أَنَّى شِئْتُمْ}، يعني أن يكون الإتيان في محل الحرث على أي حالة شاء الرجل، سواء كانت المرأة مستلقية أو باركة أو على جنب، أو غير ذلك، ويؤيد هذا ما رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن جابر رضي اللَّه عنه قال: كانت اليهود تقول: إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول، فنزلت {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ}.
فظهر من هذا أن جابرًا رضي اللَّه عنه يرى أن معنى الآية، فأتوهن في القبل على أية حالة شئتم ولو كان من ورائها.
والمقرر في علوم الحديث أن تفسير الصحابي الذي له تعلق بسبب النزول له حكم الرفع كما عقده صاحب "طلعة الأنوار"، بقوله: تفسير صاحب له تعلق بالسبب الرفع له محقق
وقد قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}، ما نصّه: وما استدلّ به المخالف من أن قوله عزّ وجلّ: {أَنَّى شِئْتُمْ}، شامل للمسالك بحكم عمومها، فلا حجة فيها؛ إذ هي مخصصة بما ذكرناه، وبأحاديث صحيحة، حِسان شهيرة، رواها عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم اثنا عشر صحابيًا، بمتون مختلفة، كلها متواردة على تحريم إتيان النساء في الأدبار، ذكرها أحمد بن حنبل في "مسنده"، وأبو داود، والنسائي، والترمذي، وغيرهم.
وقد جمعها أبو الفرج الجوزي بطرقها في جزء سماه "تحريم المحل المكروه".
ولشيخنا أبي العباس أيضًا في ذلك جزء سماه " إظهار إدبار من أجاز الوطء في الأدبار " قلت:
وهذا هو الحقّ المتبع، والصحيح في المسألة.
ولا ينبغي لمؤمن باللَّه واليوم الآخر أن يعرج في هذه النازلة على زلة عالم بعد أن تصحّ عنه، وقد حذرنا من زلة العالم. وقد روي عن ابن عمر خلاف هذا، وتكفير من فعله وهذا هو اللائق به رضي اللَّه عنه، وكذلك كذب نافع من أخبر عنه بذلك، كما ذكر النسائي وقد تقدم.
وأنكر ذلك مالك واستعظمه، وكذب من نسب ذلك إليه، وروى الدارمي في "مسنده"، عن سعيد بن يسار أبي الحباب. قال: قلت لابن عمر: ما تقول في الجواري حين أحمض لهن ؟ قال: وما التحميض ؟ فذكرت له الدبر. فقال: هل يفعل ذلك أحد من المسلمين ؟ وأسند عن خزيمة بن ثابت: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: " أيها الناس، إن اللَّه لا يستحي من الحق، لا تأتوا النساء في أعجازهن "، ومثله عن علي بن طلق، وأسند عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: " من أتى امرأة في دبرها لم ينظر اللَّه إليه يوم القيامة".
وروي أبو داود الطيالسي في مسنده عن قتادة، عن عمرو بن شعيب عن أبيه، عن عبد اللَّه بن عمرو، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: " تلك اللوطية الصغرى "، يعني إتيان المرأة في دبرها. وروي عن طاوس أنه قال: كان بدأ عمل قوم لوط إتيان النساء في أدبارهن، قال ابن المنذر وإذا ثبت الشىء عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم استغنى به عمّا سواه، من القرطبي بلفظه. وقال القرطبي أيضًا ما نصه: وقال مالك لابن وهب، وعلي بن زياد، لما أخبراه أن ناسًا بمصر يتحدثون عنه أنه يجيز ذلك، فنفر من ذلك وبادر إلى تكذيب الناقل، فقال: كذبوا عليّ، كذبوا عليّ، كذبوا عليّ. ثم قال: ألستم قومًا عربًا ؟ ألم يقل اللَّه تعالى: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ}، وهل يكون الحرث إلاّ في موضع المنبت ؟ منه بلفظه أيضًا.
ومما يؤيّد أنه لا يجوز إتيان النساء في أدبارهن، أن اللَّه تعالى حرّم الفرج في الحيض لأجل القذر العارض له، مبينًا أن ذلك القذر هو علة المنع بقوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ}. فمن باب أولى تحريم الدبر للقذر والنجاسة اللازمة، ولا ينتقض ذلك بجواز وطء المستحاضة؛ لأن دم الإستحاضة ليس في الاستقذار كدم الحيض، ولا كنجاسة الدبر؛ لأنه دم انفجار العرق فهو كدم الجرح، ومما يؤيّد منع الوطء في الدبر إطباق العلماء على أن الرتقاء التي لا يوصل إلى وطئها معيبة ترد بذلك العيب.
قال ابن عبد البر: لم يختلف العلماء في ذلك، إلا شيئًا جاء عن عمر بن عبد العزيز من وجه ليس بالقوي أن الرتقاء لا ترد بالرتق. والفقهاء كلهم على خلاف ذلك.
قال القرطبي: وفي إجماعهم هذا دليل على أن الدبر ليس بموضع وطء ولو كان موضعًا للوطء، ما ردت من لا يوصل إلى وطئها في الفرج. فإن قيل: قد يكون رد الرتقاء لعلة عدم النسل فلا ينافي أنها توطأ في الدبر، فالجواب أن العقم لا يرد به، ولو كانت علة رد الرتقاء عدم النسل لكان العقم موجبًا للرد.
وقد حكى القرطبي الإجماع على أن العقم لا يردّ به، في تفسير قوله تعالى: {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ}، فإذا تحققت من هذه الأدلة أن وطء المرأة في دبرها حرام. فاعلم أن من روى عنه جواز ذلك كابن عمر، وأبي سعيد وجماعات من المتقدمين، والمتأخرين، يجب حمله على أن مرادهم بالإتيان في الدبر إتيانها في الفرج من جهة الدبر، كما يبينه حديث جابر والجمع واجب إذا أمكن. قال ابن كثير في تفسير قوله: {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} ما نصه: قال أبو محمد، عبد الرحمان بن عبد اللَّه الدارمي في "مسنده": حدّثنا عبد اللَّه بن صالح، حدّثنا الليث عن الحارث بن يعقوب، عن سعيد بن يسار أبي الحباب، قال: قلت لابن عمر: ما تقول في الجواري أيحمض لهن ؟ قال: وما التحميض ؟ فذكر الدبر، فقال: وهل يفعل ذلك أحد من المسلمين ؟. وكذا رواه ابن وهب، وقتيبة عن الليث.